من حرية الفكر إلى حرية النشر

1-كفاح الإنسان من أجل حرية التعبير

منذ هبط الإنسان إلى الأرض لم يكن فيها شيئاً مذكوراً، وحتى ارتياده الفضاء يرنو ببصره إلى السماء؛ ما زال يكافح من أجل حرية التعبير عن آرائه.

ظلت أفكاره ردحاً من الزمن حبيسة ذاكرته، يضن بها وبخبراته أن تموت بموته، فحاول نقلها إلى أبنائه وبني جنسه بالإشارة أولاً، فكانت الإشارة أول وسائله للتعبير. وعندما عجزت الإشارة عن نقل معلوماته التي أخذت تتضاعف، وشعر أن ذاكرته ضاقت عن استيعابها، وقد باتت عرضة للنسيان، أخذ يبحث لها عن ذواكر خارجية يضيفها لذاكرته، لتوثيقها من جهة، ولنقلها للأجيال الآتية من جهة أخرى، فاستخدم الصوت ليصل به إلى اللغة المحكية، واستخدم النقش ليصل به إلى الحرف والكلمة المكتوبة؛ فكان الكتاب المخطوط. ولما عجزت يده عن استيعاب معلوماته المتنامية، اخترع الطباعة التي حوّلت الوراقين إلى ناشرين.

وما زال الإنسان كلما ضاقت أوعيته المعلوماتية عن الاستيعاب، يبحث لها عن أوعية جديدة. وهاهو في عصر المعرفة والتفجر المعلوماتي، ينتقل بالكلمة تدريجاً إلى أوعيتها الإلكترونية الجديدة.    بنائه

لم يعرف التعبير؛ محكياً كان أو مكتوباً أو مصوراً، أي قيود على حريته، قبل أن تنتظم المجتمعات الإنسانية تحت سلطة ما، من القبيلة إلى الدولة.

وبهذه القيود أصبحت الكلمة مسؤولة مسؤولية مزدوجة تخضع فيها لرقابة المجتمع وأعرافه تارة، ولرقابة الدولة وقوانينها تارة أخرى.

وقديماً قالوا: ما كل ما يًعلم يقال . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”.  [ رواه أبو داود وابن ماجه]

● أنبياء الله كانوا أول المكافحين من أجل حرية الرأي وحرية التعبير ومارسوا تبليغ أفكارهم والصدع بها بوصفه واجباً يؤدونه، وليس مجرد حق يستجدونه، وتحملوا في سبيل ذلك أشد صنوف الأذى والتعذيب والطرد والتهجير ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [ إبراهيم 14/9].

المجتمعات الراكدة هي التي تصدت للأنبياء؛ كراهية للتغيير، وتشبثاً بالموروث من فكر الآباء؛ تستميت في الدفاع عنه، فيصبر الأنبياء ويحتملون الإيذاء، ويكشف نوح عن صدره صارخاً في قومه: ﴿ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ ﴾ [يونس10/71].

﴿ حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ﴾ [ يوسف 12/110].. تلك صور من كفاح الأنبياء دفاعاً عن حرية التعبير في مواجهة مجتمعات الركود والتخلف.

ولم يكن الأنبياء أقل تصدياً لأنظمة الاستبداد السياسي، وتعرضاً لبطشهم: تكذيباً ومطاردة ونفياً وتعذيباً.

ويرسـم القرآن العظيم لنا صورة معبرة لمصادرة الـرأي السياسي، هي صـورة موسـى في صراعه مع فـرعـون ﴿إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوَىً: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى،فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؛ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى، فَأَراهُ الآيَةَ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنادَى، فَقالَ أَنا رَبُّكُمُ الأَعْلَى  ﴾ [ النازعات79/16-25].

ويحاول فرعون أن يضفي على استبداده صفة البحث العلمي، فينادي ﴿ يا أَيُّها الْمَلأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [ القصص 28/38].

ومن مقام الربوبية الزائفة يعلن فرعون استئثاره بالرأي وتفرده بالتفكير نيابة عنهم ﴿ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرَى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ [ غافر40/29].

وفي خطوة أشـبه ما تكون بمسرحيات الاسـتفتاء على الـزعامة ؛ ينادي في قومه ﴿يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [ الزخرف43/51]  ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ﴾ [ الزخرف 43/54].. دعوة قرآنية صارخة للمجتمعات كي تدافع عن حقها في التعبير عن رأيها، ولا تستسلم، نجد أروع تطبيقاتها في حديث عبادة بن الصامت “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره.. وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم” [متفق عليه].

والتاريخ الإنساني بعدُ، مليء  بصور من كفاح العلماء للتعبير عن آرائهم وكشوفاتهم العلمية، في مواجهة محاكم التفتيش التي نصبت لهم، لإثنائهم عن إعلانها، وما خبر غاليليه- ورجوعه عن إعلانه دوران الأرض حول الشمس، إنقاذاً لرقبته من المقصلة- بخافٍ على أحد من أهل العلم.

لكن ذلك لم يمنعه عند عودته إلى بيته من أن يضرب الأرض بـرجله وهـو يصيح بها ” والله إنك لتدورين”.

2-من حرية الفكر إلى حرية النشر

يخلط كثيرون بين حرية الفكر والاعتقاد من جهة، وحرية الرأي والتعبير عنه من جهة أخرى، ذلك أن حرية الفكر وحرية الاعتقاد؛ حقان طبيعيّان يمارسهما الإنسان في داخله، بما وهبه الله تعالى من عقل، لا حاجة لتوكيدهما في نصوص دستورية أو قانونية، إذ لا يملك أحد – مهما أوتي من جبروت أو استخدم من وسائل غسيل الدماغ- أن يعطلهما أو يقيدهما؛ فالفكرة المستقرة في ضمير الإنسان، والعقيدة الراسخة في وجدانه، قد تستتران وتظلان في حالة كمون نتيجة الإكراه، لكنهما ما تلبثان أن تخرجا منها، ولو بعد حين، كالذي حدث إثر انهيار الاتحاد السـوفييتي، ليؤكد صدق القانون الإلهي ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ﴾ [ البقرة 2/256].

أما عندما تتحول الفكرة والعقيدة إلى رأي يتجاوز ضمير الإنسان، فيعبر عنه للآخرين وينشره ليشركهم معه في تبنيه، فإنه سيحتاج إلى دساتير تؤكده، وقوانين تحميه، وضمانات تكفله؛ بوصفه حقاً من حقوق الإنسان كثيراً ما يتعرض لمصادرته والافتئات عليه، وما زال الإنسان على مر العصور يكافح لنيله، ينجح تارة ويخفق أخرى، في صراع أبدي.

3-حرية الرأي والتعبير في المواثيق الدولية

لقد أصبحت حرية الرأي والتعبير عنه من المبادئ الأساسية المسلَّم بها، وغير القابلة للنقاش فيها، أو الانتقاص منها، في معظم المواثيق الدولية.

فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، نص في مادته رقم 19 على أن ” لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة، ودونما اعتبار للحدود”.

ويأتي الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ليضيف إلى نص المادة 19 السابق توضيحاً لأشكال التعبير ” سواءً أكانت على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة يختارها” ثم ليفتح الباب أمام جواز إخضاع حرية التعبير لبعض القيود شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية:

آ-لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم.

ب-لحماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة.

وعبر هذا الباب، أخذت الأنظمة تتوسع في تفسير القيود أو تضيق أو تترك الباب موارباً- بحسب طبيعتها-.

وتتوالى الاتفاقيات والمواثيق الدولية مؤكدة على كفالة هذا الحق، كالاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان، وإعلان اليونيسكو للإعلام سنة 1978م، والمبادئ الخاصة بالنظام الإعلامي العالمي الجديد سنة 1980م، والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان 1990م.

والاتفاق العربي لحقوق الإنسان 2000

 

4-حرية الرأي والتعبير في الدساتير العربية

كل الدساتير العربية نصت على حق مواطنيها في حرية الرأي والتعبير. ولئن اختلفت فيما بينها بالطرق التي صيغت بها كفالة هذا الحق، فقد اتفقت كلها على تقييده بشروط أوكلت تحديدها إلى القانون، الذي تولى بدوره صوغها بقوالب عامة وحمالة أوجه؛ تفرغ النصوص الدستورية من مضامينها، ليسهل على السلطة الإدارية قضمها في ظل تغييب رقابة السلطة القضائية.

إن تقييد الحرية- أي حرية- ليس عيباً بحد ذاته، فلا توجد حرية مطلقة، ولو أطلقت الحرية لكل إنسان في مجتمع ما لتعارضت حريات أفراده وتصادمت، وذلك ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة، التي همَّ أحد ركابها في الطابق السفليِّ أن يثقب فيها ثقباً يستقي منه الماء؛ بذريعة أن الثقب سيكون في سهمه، ومن حقه أن يصنع فيه ما يشاء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعاً، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعاً”.

وما من حق إلا ويستدعي وجود واجب في مقابلته، وما من حرية إلا وتستدعي مسؤولية على قدرها.

إنما القضية تكمن في المقاصد، فإن كان القصد من الاستثناء والتقييد تلافي الأضرار التي قد تنجم عن الحرية المطلقة، ضاقت ثقوب الغربال وأُحكمت حتى ليستبقي فيه كل مفيد نافع، وينفي عنه كل خبيث وضار. وإن كان القصد من الاستثناء التخلص من حرية التعبير وما تجره من أعباء الإصغاء إلى الآراء المعارضة ومناقشتها، اتسعت ثقوب الغربال حتى لا يبقى منه إلا الإطار والشكل، ويغيب المضمون. وهو – لعمري- ما اختارته أنظمة الدول العربية أحادية الاتجاه في معظمها، حين نصت دساتيرها على ضمان حرية التعبير في حدود القانون، أو بالشروط التي يحددها القانون، فتركت للقانون تنظيم هذه الحرية، من دون أن تقيده بأي ضوابط محددة، لتعطي السلطات هامشاً في التحكم بهذه الحرية، فتعديل القوانين أيسر عليها من تعديل الدساتير، ويمكنها أن تحول حرية التعبير إلى شعار أجوف ترفعه الدساتير وتغيبه القوانين.

وينفرد الدستور القطري من بين الدساتير العربية بغياب أي ذكر لحرية الرأي والتعبير كمبدأ عام، مكتفياً في مادته 13 بالنص على أن ” حرية النشر والصحافة مكفولة وفقاً للقانون”. كما ينفرد الدستور اللبناني بالنص على حرية الطباعة. و الدستور السوري بمنح المواطن حق الإعراب عن رأيه بحرية وعلنية؛ بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي.

وينص القانون الأساسي السعودي في مادته 36 على أن تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة، وبأنظمة الدولة، وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها، ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو الانقسام أو يمس بأمن الدولة، وعلاقاتها العامة، أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه، وتبين الأنظمة كيفية ذلك.

5-حرية الرأي وأزمة صناعة النشر

تُعد صناعة النشر أحد أهم المعايير التي يقاس بها المستوى الحضاري لشعب من الشعوب، فمن فحص الإنتاج الفكري، ومعدلات النهم القرائي لأي مجتمع  في حقبة ما من أحقاب تطوره؛ يمكن تحديد المرحلة الحضارية التي يجتازها هذا المجتمع صعوداً في معارج التحضر أو انسحاباً من ميادينه.

وقد غدت دور النشر إحدى أهم مصانع المعرفة، إلى جانب الجامعات ومراكز الأبحاث، في عصر المعلومات وثورة الاتصالات؛ الذي تتحول الإنسانية إليه الآن بسرعة مذهلة.

فأما الإنتاج الفكري، فقد تولى تقرير التنمية البشرية لعام 2003، تزويدنا بأرقامه التي تضعنا في أسفل سلم الإنتاج الفكري العالمي.

وأما المعدل القرائي فقد وضعنا التقرير في المرتبة ذاتها، إذ يقرأ الكتابَ الواحد واحد من كل ثمانين عربياً ، بينما يقرأ كل إسرائيلي أربعين كتاباً في السنة، لتصبح المعادلة أن الإسرائيلي الواحد يقرأ ما يقرؤه 3200 عربي، وهو ما يفسر لنا السبب الأهم من أسباب تخلفنا وانهزامنا، كما يفسر لنا أسباب ضعف صناعة النشر في الوطن العربي، فهي تعمل على إنتاج سلعةٍ لا رواج لها ولا طلب عليها.

وبحسب تقرير التنمية الثقافية لعام 2008

فإنه يشير إلى نوع من التراجع في مستويات استهلاك الصحف داخل الوطن العربي بين عامي 1996 و2003 حين كان متوسط توزيع الصحف اليومية في عام 1996 (78) نسخة لكل ألف مواطن عربي، ثم انخفض إلى (50) نسخة فقط في عام 2003.

بينما بلغ متوسط عدد النسخ لكل ألف مواطن في كوريا الجنوبية (394) نسخة. علماً بأن سكانها يشكلون 16% من سكان الوطن العربي.

– في حين أنه في محور التلفزيون الفضائي ارتفع عدد القنوات الفضائية التي تبث باللغة العربية حتى منتصف 2008 إلى (482) قناة مفتوحة غير الباقات المشفرة، أي إن هذا الميدان يشهد نمواً سريعاً لدرجة فائقة.

-ويوضح التقرير أن المواقع الإعلامية على الشابكة (الإنترنت) تحظى بأعلى معدل استخدام بنسبة 28%، تليها مواقع الدردشة بنسبة 15%. ويُعَدُّ الدافع الأول لدخول المواطن العربي على الشابكة هو الترفيه والتواصل بنسبة 46%، ثم بدافع التماس المعلومات بنسبة 26%.

وكشف التقرير أن العدد الإجمالي لمنشورات الوطن العربي من الكتب خلال عام 2007 بلغ (27809) عناوين، أي بنسبة كتاب واحد لكل 11950 مواطناً، مقابل كتاب واحد لكل 491 مواطناً بريطانياً.

ويشير التقرير إلى أنه بينما يبلغ مجموع المؤلفات في الأدب والديانات 48% من إجمالي الكتب في السنة نفسها فإنه لم يتجاوز ما نشر من العلوم التطبيقية والنظرية 12% ،كما بلغ إجمالي الكتب المترجمة في اللغات الأجنبية عام 2007 نحو 1261 كتاباً أي 4.5% من إجمالي المنشور. ومن باب المقارنة أنتجت بريطانيا عام 2007 نحو 118000 عنوان جديد، أي ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف الإنتاج العربي.

يعزو الكثيرون أسباب العزوف القرائي في الوطن العربي إلى ارتفاع نسبة الأمية فيه، وإلى ضيق ذات اليد، وذات الوقت، وتعقد سبل الحياة، وانتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيرى هجر الكتاب والقراءة طبعاً متأصلاً فينا نفضل بموجبه الثرثرة الكلامية على الكلمة المكتوبة الموثقة.

وأرى ذلك كله أسباباً سطحية لا تلامس جوهر المشكلة، فضلاً عن مجافاتها للحقيقة وللواقع.

فلقد قرأنا- ونحن أميون- المخزون المعرفي الإنساني، نشتاره من كل حدب وصوب، ثم نعيد إنتاجه معالجاً ومضافاً إليه ومطبوعاً بقيمنا وثقافتنا ومنطلقاتنا لنبني به أسرع حضارة في التاريخ كانت ملء السمع والبصر.

تم ذلك على وقع نداء ﴿اقرأ﴾، ومناخ الحرية الذي وفرته لنا ثقافتنا الإنسانية المنفتحة على ثقافات العالم.

ولقد كنا نقرأ، قبل أن يكون عندنا تعليم إلزامي، وثقافة إلزامية.. كنا يومها نحترم الكتاب والكلمة والحرف إلى درجة القداسة؛ نضن بالكلمة أن تقع على الأرض، فإن هي وقعت رفعناها وقبَّلناها ووضعناها في حرزها.

وكان للكلمة عندنا معناها ومغزاها وفاعليتها كالقسم، لا يجرؤ أحد على الحنث به، فإن هو فعل فَقَدَ احترامه في المجتمع الذي كان يعد التزام الإنسان بكلامه من الرجولة.

وكنا- ناشرين- أواسط القرن الماضي، نستقبل قارئاً يبحث عن جديد، وكان ذلك يحثنا على إنتاج الجديد، الذي ما يلبث- بدوره- أن يصبح قديماً، لسرعة تلقفه، وانتشار خبره، تداولاً له بين القراء، ونقداً له في الصحافة وأندية الثقافة.

ثم آل الأمر بنا- أواخر القرن- إلى أن أصبحنا ننتج جديداً يبحث عن قارئ، ثم نجتر قديمنا الذي بات بمثابة الجديد؛ يستويان معاً في مجتمع الركود ونضوب الإبداع.

ما الذي تغير، فعاجل حركة النشر العربي في صباها وأعاقها عن النمو؟!

ما الذي أفرغ التعليم من مضمونه، وحرفه عن مقصده، ليخرج لنا أجيالاً من مستظهري المقررات المدرسية، بدلاً من بناء أجيال من الباحثين المتقنين لتحصيل المعلومات من المراجع والمصادر؟!

ما الذي أفقد الكلمة قوتها، وشلَّ فاعليتها، وفصمها عن معناها ومغزاها؟!

6- الكلمة تفقد فعاليتها حين تفقد حريتها

حرية الكلمة،حرية النشر، حرية التعبير، حرية التفكير.. الحرية بكل معانيها وأبعادها؛ جوهر المشكلة، ومكمن الداء.

تولد الكلمة حرة، لا تطيق القيود، ولا القماقم، ولا القوالب الجاهزة، فإن لم تستطع الإفلات من قيدها تموت.

والكلمة تعبير عن فكرة، والفكرة كائن حي يتكاثر بالتعدد وبالتنوع وبالتزاوج أما الفكر الأحادي فهو عقيم لا ينجب. وبارقة الحقيقة لا تنقدح إلا باحتكاك الأفكار وتصادمها، مثل السحاب..

والفكرة إبداع، والإبداع تجديد، والتجديد تجاوز للمألوف، وتجاوز المألوف مخالفة، والمخالفة تحدٍّ، والتحدي يستدعي الآخر، والآخر تعدد، والتعدد يثير التصادم، ومن التصادم ينبعث الرعد، صوتاً يخرق الصمت، ونوراً يضيء ظلام الطريق، ويبعث على الحركة، والحركة حياة، والحياة كتاب.

والفكرة إضافة إلى فكر الآباء.. والجيل الذي لا يقدم إضافـة إلى فكر الآباء ويقول: ﴿ حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ﴾ [ المائدة 5/104] جيل عاطل إمعة، لن يأبه به التاريخ،  وسيتخطاه إلى جيل أكثر فعالية.. والآباء الناجحون هم الذين يوفرون لأبنائهم المناخ الملائم للإبداع، ولا يقفون عثرة في طريق تقدمهم.. تلك سنة الحياة التي نرى أروع صورة لها في مناجاة إبراهيم لأبيه:﴿ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيّاً﴾ [ مريم 19/43].

وإنما تؤتى الأمم من قبل أفكارها، فلئن كان واقع كل أمة إنما هو حصاد ما تحمله من أفكار، وما تتشبث به من مفاهيم، فإن عليها أن ترفع وصايتها عن المجتمع، وعلى شبابها أن يبحثوا عن سبل تقدمهم في الممنوعات ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ [ من أوضار] حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [ من أفكار]﴾ [ الرعد13/11].

كل الأنبياء والمصلحين جاؤوا بالتغيير، وأُدرجت أفكارهم في قائمة الممنوعات، وصُكت الآذان عن سماعها، فصبروا، وتذرعوا بالحجج والبينات، فكانوا أئمة التغيير.

7-الاتفاقية العربية لتيسر انتقال الإنتاج الثقافي العربي نموذجاً

قرار مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، الصادر عنهم في دورتهم السادسة المنعقدة في دمشق في 21-23 أبريل (نيسان) 1987 المتضمن مشروع (الاتفاقية العربية لتيسير انتقال الإنتاج الثقافي العربي) التي تم تنقيحها في ضوء الملاحظات التي تقدمت بها بعض الدول العربية، ثم حظيت بموافقة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في مؤتمرها العام في دورته التاسعة المنعقدة في تونس 19-22/12/1987 (في العام ذاته)، وقررت توجيه الشكر للدول التي وقعت على هذه الاتفاقية ودعوة الدول الأخرى للتوقيع عليها.

هذا القرار نموذج لفقدان الكلمة فاعليتها في عالمنا العربي.

فبعد أن أوضحت المادتان الأولى والثانية المقصود بالتعابير الواردة، وأنواع المصنفات المشمولة بالاتفاقية، تعاقبت المواد للنص على ما يلي:

المادة الثالثة: تعمل الدول العربية على تيسير انتقال الإنتاج الثقافي العربي.. (سواء داخل الأقطار العربية أو خارجها) بمختلف الوسائل الناجعة. ومنها بصورة خاصة:

آ- إعفاؤه من الرسوم الجمركية.

ب-منحه أولوية النقل بين الأقطار العربية.

المادة الرابعة: تعمل الدول العربية على أن يتمتع الإنتاج الثقافي العربي الوارد ذكره في المادة الثانية من هذه الاتفاقية بتعرفات نقل مخفضة على وسائل النقل بين البلاد العربية، بحيث لا تزيد تعرفات نقل هذا الإنتاج عن 25% من تعرفات النقل المفروضة على السلع الأخرى.

المادة الخامسة: تعمل الدول العربية على إعفاء ما تستورده من مواد تدخل في عملية الإنتاج الثقافي العربي من الرسوم الجمركية، وفي حال تعذر ذلك تضع الدول العربية رسوماً جمركية رمزية على هذه المواد المستوردة.

وبعدما أوضحت المواد السادسة إلى التاسعة بعض الإجراءات اللازمة لتطبيق بنود هذه الاتفاقية أو تجاوزها إلى ما يفوقها في اتفاقيات ثنائية، عادت لتتحفظ كالمعتاد.

المادة العاشرة: مع عدم الإخلال بالاتفاقيات المبرمة فيما بين الدول عربياً ودولياً، لا تمس أحكام هذه الاتفاقية حق كل دولة من الدول الأعضاء في أن تسمح أو تراقب أو تمنع وفقاً لتشريعها الوطني تداول أي مصنف في إطار سيادتها.

ولو سألنا الكتاب عما حدث له منذ اتفاقية عام 1987لتيسير انتقاله بين الدول العربية، لأجابنا، بصوت خافت مبحوح، وقلب كسير مهان:

ما رأيت غير مزيد من التعقيد والقيود، مزيد من الرسوم والأعباء، ونظراً لنفاذ بصيرته التي تهتم بالمسميات قيل الأسماء وبالنتائج قبل المقدمات لم ينخدع بما أعلنته الأنظمة تطبيقاً للاتفاقية، من إعفاء شكلي من الرسوم الجمركية عوضته أضعافاً مضاعفة بما فرضت عليه من رسوم أخرى، أطلقت عليها أسماء شتى، كمن يأخذ بإحدى يديه أضعاف ما أعطاه بالأخرى.

مادة واحدة من الاتفاقية طبقتها الأنظمة بصدق وشفافية عالية هي المادة العاشرة، فمارست حقها المزعوم في الرقابة على الأفكار، والوصاية على الناس، مفترضة قصور عقولهم، وعجزهم عن تمييز النافع من الضار، والخبيث من الطيب، مما يستدعي فرض الحجر عليهم، وحجب الرؤية عن بصائرهم، ومنعهم من الاطلاع على ما تمنعه السلطات، والاقتصار على ما تسمح به، مبدية إشفاقها الحاني عليهم وسهرها على مصالحهم وحرصها على إراحتهم من عناء التفكير.

يقول الكتاب: لقد كنت قبل اتفاقية التيسير أتنقل بين البلدان بكثير من اليسر؛ ما إن أخرج من المطبعة حتى تستقبلني وسائط النقل المختلفة بكل ترحيب لتقلني إلى مختلف الأصقاع؛ تتوقف جميع السلع عند موظفي الجمارك على الحدود، يدققون مستنداتها ويتفحصون شهادات منشئها وفواتيرها، ولا أتوقف.. كنت أشعر بكثير من الاحترام، أجتاز الحدود كمن يحمل جواز سفر دبلوماسياً، ترفع له التحية وتفتح له الأبواب، لا أحتاج إلى إذن بالطبع، ولا إذن بالخروج ولا بالدخول، لا يفصل بين ولادتي ووصولي إلى يد قارئي في أي بلد عربي غير ساعات؛ يتفاوت عددها حسب تباعد المسافات بين القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وعمان والدار البيضاء، ولم أكن أحمِّل القارئ في بلد المقصد عبئاً مالياً يذكر فوق ما يحمله في بلد المولد، إذ لم أكن أطالَب في طريقي إليه بأية رسوم..

8-المقررات المدرسية شكل من أشكال الحجر والانتقاص من حرية النشر

مناهجنا التعليمية ربطت طلابنا بالمقررات الدراسية ومختصراتها، فقتلت لديهم روح البحث وصرفتهم عن المطالعة خارج المنهاج، وكرهت إليهم القراءة والكتاب، حين حصرت هدفهما بالامتحان والشهادة، تنتهي الحاجة إليهما وتبدأ القطيعة معهما بالنجاح في الامتحان وتحصيل الشهادة.

إن مناهج التربية والتعليم؛ هي المسؤولة عن غرس عادة القراءة لدى الإنسان من أجل بناء مجتمع قارئ . وهي القادرة على تكوين القارئ النهم، الذي يعد الكتاب حاجة أساسية لتنمية عقله وفكره، مثلما الرغيف حاجة أساسية لنماء جسده، بل هو يشعر بأن معدته محدودة إذا استقبلت من الرغيف أكثر من حاجتها أصيب بالتخمة، بينما عقله غير محدود يلتهم كل ما يقدم له من زاد المعرفة، ويقول: هل من مزيد؟!

فإن هي أرادت أن تستخدم طاقتها في بناء الإنسان القارئ، أقبلت عليه منذ الصغر، توسع مداركه، وتفتح له آفاق المعرفة، وتغريه بها مستغلة ما فطر عليه من حب الاطلاع، والسعادة بالتعرف على المجهول، فتطارحه الأسئلة وتدفعه للتساؤل، ثم تضع بين يديه المراجع والمصادر، وتتركه يواجه تعب الولوج إليها، ويعاني مشقة البحث فيها، وينتابه الإحباط تارة والأمل أخرى، حتى يظفر بما يريد، وتغمره السعادة بما حصل عليه بجهده وتعبه وسهره.. عند ذلك ستقوم بينه وبين الكتاب ألفة ما بعدها ألفة، وسيشعر أن حياته مدينة للكتاب، وأنه لا يستطيع أن يعيش من دون كتاب يصطحبه معه كل حين، يحيي به كل وقت انتظار فيزهق ملله، ويخصه بساعات من وقته يخلو بها معه.

أما إذا أرادت أن تضرب به مثل السوء، وتذهب به خارج دورة الحضارة، فتصرفه عن عادة القراءة، وتبغضه بالكتاب، وتشغله بسفاسف الأمور، فإنها تعمد إلى ربطه بالمقررات، وصرفه عن المراجع، وقتل روح السؤال والتساؤل لديه، وإراحته من عناء التفكير ومشقة البحث، فها هو الكتاب المقرر بين يديه، قد احتوى علم الأولين  والآخرين، وما عليه إلا أن يقرأه آناء الليل وأطراف النهار حتى يحفظ كل حرف فيه، ويصبه في ورقة الامتحان صباً، فينال الشهادة، وتنقطع بها صلته بالكتاب، بل يصبح الكتاب أبغض شيء إليه، لأنه كان الضيف الثقيل المفروض عليه، وها قد انتهت حاجته إليه.. أفتراه يبحث عن نظيره ليعكر عليه صفو هدوئه.

والمناهج عندما تمارس هذا الدور، تلغي كل دور لمكتبة المنـزل أو المدرسة، ولحصة المطالعة، ولواجب المطالعة الحرة، ولحلقة البحث، وتصنع من الكتاب أعدى عدو للإنسان.

ولقد كانت للمملكة العربية السعودية في ثمانينيات القرن الماضي؛ تجربة رائدة استطاعت من خلالها أن توجه حركة النشر في الوطن العربي، وتضبط إيقاعها، فقد طلبت من كل ناشر عربي أن يزودها بنسخة من جديده، تخضعها للتقويم، فإن هي فازت زودت بها مكتباتها المدرسية بكميات متفاوتة، تصل إلى أكثر من 15000 نسخة للكتب التي تلائم المرحلة الابتدائية، وأكثر من 5000 نسخة لمكتبات المرحلة الإعدادية، و 2800 نسخة لمكتبات المرحلة الثانية ، ولم تكن اختياراتها عشوائية ولا منغلقة، فقد اختارت على سبيل المثال:

الكثير من حلقات سلسلة ليديبرد للمكتبات الابتدائية، وكتاب شروط النهضة لمالك بن نبي لمكتبات مدارسها الثانوية، ثم عصفت بالمشروع أزمة عارضة، لم ير النور بعدها..

 

 

9- مسؤولية الكلمة بين رقابة السلطة ورقابة المجتمع

سقا الله أيام زمان؛ يوم كان الكتاب يتنقل بين عواصم العالم العربي؛ لا يخاف دَرَكاً، ولا يخشى.. يبحث رجل الجمارك في حقيبة المسافر عن كل شيء، فإن وقعت يده على كتابٍ نحاها عنه بكل احترامٍ.. يومها كان الحرف يحظى بقداسة تجلُّه أن يقع على الأرض، وكان للكلمة سحرها وفاعليتها.

لم تنج الكلمة من سيف الرقابة المسلَط يوماً.. منذ أيام العرب الأولى في سوق عكاظ، حيث كان الشعراء ينشدون أشعارهم، وكان النقاد لهم بالمرصاد يسلقونهم بألسنة حداد، مروراً بالمتنبي كبير شعراء العصر الإسلامي الذي ألَّفوا في نقده وسرقاته ومشكل شعره كتباً. وانتهاءً بسفّود الرافعي الذي شوى العقاد به على النار، وبرسالة الزيات التي كنا نتتبع عبرها المعارك الأدبية المحتدمة بين كبار الأدباء أواسط القرن الماضي؛ نتفاعل معها ونشارك فيها شجباً وتأييداً.. ثم خبا بعد ذلك كل شيء: هدأت المعارك الأدبية، وخفتت أصوات النقد، وسادت ثقافة البعد الواحد، واللون الواحد؛ لينشأ في ظلهما جيل الاسترخاء الفكري والعزوف القرائي والتواكل.

الرقابة كانت وما تزال حاضرة في كل زمان ومكان، ولكن شتان بين رقابة يديرها المجتمع في العلن وعلى رؤوس الأشهاد، ورقابة تتولاها السلطة في الخفاء داخل الدهاليز المغلقة، وإن بين الرقابتين لبوناً شاسعاً في الشكل والآليات من جهة، وفي المضمون والحصاد من جهة ثانية.

وعلى الرغم من أن رقابة المجتمع تنطلق من الحفاظ على قيمه وتقاليده وأعرافه، مما يعيق عملية التجديد وطرح أفكار جديدة تتجاوز المألوف؛ فإنَّ تجاوزها واختراقها مرهون بقدرة صاحبها على الحوار والإقناع.

أما رقابة السلطة فمرهونة بنوع هذه السلطة؛ ديمقراطية تستند في حكمها إلى الشعب وصناديق الاقتراع، فتقترب بذلك من رقابة المجتمع وتحقيق مصالحه وتطلعاته، أو فردية أحادية توجه رقابتها إلى حفظ النظام واستقراره؛ من الصعوبة بمكان تجاوزها وهذا التقسيم بين ديمقراطي وفردي ليس حدياً، فقد يقترب أحدهما من الآخر، فيصوغ أنظمته الرقابية بحسب درجة اقترابه.

وعلى صاحب الكلمة أن يتلمس مدى قدرته على تحمل مسؤوليتها الاجتماعية والقانونية قبل أن يعبر عنها.

بين رقابة السلطة ورقابة المجتمع، ثمة فروق جوهرية، أرجو ألا أملكم بسردها:

● ففي ظل رقابة المجتمع يتحمل صانعا الكلمة؛ المؤلف والناشر، مسؤوليتها على مختلف الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ويستعدان لتلقي ردود الأفعال المتباينة حولها وتلك هي – لعمري- رقابة الذات.

وفي ظل رقابة السلطة، يرفع صانعا الكلمة مسؤوليتها عن عاتقهما، ويلقيان بها على عاتق الرقيب، ويعفيان نفسيهما من تلقي ردود الأفعال، ومن تبعات القيل والقال، فتغيب رقابة الذات لتحل محلها ثقافة الإملاء.

● رقابة المجتمع لاحقة تسمح للكتاب أن يختزل الوقت، ويتابع التطورات والأحداث.

ورقابة السلطة سابقة، تضع الكتاب على قائمة الانتظار التي قد تذهب بألقه ومناسبته وجدواه عند صدوره.

● رقابة المجتمع تعددية: تتناوله من وجهات نظر مختلفة، بين مبارك متفق ومعارض مختلف؛ يحتدم النقاش بينهما بقدر ما ينطوي عليه الكتاب من مفاجآت، تخرج به عن الفكر السائد والمسلَّمات.

ورقابة السلطة أحادية وصائية، ذات بعد واحد لا يثير جدلاً، ولا يحرك ساكناً.

● رقابة المجتمع هي المناخ الملائم لتعزيز القراءة، بما تشيعه من ترقب وتفاعل وتشارك وحوار ونقد بين صانعي الكلمة ومتلقيها.

ورقابة السلطة: وصائية تفترض قصور القارئ وعجزه عن تمييز الخطأ من الصواب، فتحجر عليه وتحرمه من حقه في الاطلاع، والاستمتاع بتنحية الغث والاحتفاظ بالثمين، مثلما يستمتع مقتطف الورود تدمى يداه بأشواكها، فتقدم له زاده الثقافي وجبة جاهزة منمطة مثل وجبات (ماكدونالد).

● ورقابة المجتمع معين لا ينضب؛ مفتوحة لكل هاوٍ ومحترف، بعدد غير محدود.

ولن تستطيع السلطة أن توظف لرقابتها غير عدد محدود مغلق من الرقباء يُدخل الإنتاج الثقافي- الذي يفترض أن يكون غزيراً -بهم في عنق زجاجة.

● ووفرة النقاد في المجتمع تجعل بعضهم يدعم بعضاًَ، فيعوِّض ذوو البصر النافذ فيهم، ضحالة السطحيين، فيما يشبه تدرج محاكم البداية فالاستئناف والتمييز، الذي يمنح القضية سائر الفرص حتى يخرج الحكم النهائي المبرم ناضجاً معللاً مقنعاً للجميع.

وحكم رقيب السلطة الأحادي يصدر قطعياً مبرماً منذ الدرجة الأولى؛ غير قابل لأي طريق من طرق الطعن، وغير معلَّل بما يطمئن إلى حصافة الرقيب.

● وإذا كان المجتمع قادراً على توفير العدد غير المحدود من المتطوعين ذوي الاختصاص العلمي والفني، لنقد أي عمل إبداعي، فإن ذلك متعذر على رقابة السلطة ذات العدد المحدود من الموظفين.

● لن أسترسل في عرض النتائج المتباينة لكل من الرقابتين فلديَّ منها الكثير.. يكفي أن أؤكد ما أثبتته التجربة من أن مناهج الوجبات الجاهزة والثقافة الإلزامية المنمّطة ، إنْ في المقررات التعليمية أو في الكتب الثقافية، قد بغضت الكتاب إلى الطالب والقارئ معاً، وأفقدتهما الاحترام والقداسة له، وأسهمت في إنتاج جيل مسطَّح، لم يفلت منه إلا من نأى بنفسه عنها بقدراته الذاتية وعشقه للعلم ونهمه للمطالعة.

لا تختلف الرقابة على المطبوعات في معظم بلدان الوطن العربي، إلا في درجة التشدد الرقابي، وزاوية النظر.

ولا يزال على الناشر فيها، حين يزمع نشر كتاب أن يعرضه قبل الطبع على أجهزة الرقابة، وأن ينتظر رأيها فيه وحكمها عليه، الذي قد يتراوح بين السماح المطلق، أو المشروط ببعض الحذف، وبين المنع الكلي. وقد يستغرق انتظاره بضعة أشهر، خاصة إذا كان عنوانه مثيراً؛ مثل عنوان (خوف لا ينتهي)، على الرغم من أن مضمونه لا يخيف أحداً.

وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات الرقابية تعيق حركة النشر في عصر يتسارع فيه توليد الأفكار ونشرها، وتفقد فيه بعض المطبوعات قيمتها العلمية أو مناسبتها السياسية أو الاجتماعية قبل أن تغادر المطبعة وتصل إلى يد القارئ، فإن الناشر ما يزال يركن إليها ويألفها، ويفضلها على حرية النشر التي قد تعرضه لتحمل مسؤوليته عن الكلمة؛ سواءً أكانت مسؤولية سياسية أو اجتماعية أو دينية. ولئن كان تذرعه بموافقة الرقابة المسبقة، قد يخفف من مسؤوليته، لكنه لن يعفيه منها، خاصة إذا ارتدت المسؤولية العباءة الأمنية.

على أية حال فإن مشكلة الرقابة المحلية، ربما كانت هي الأهون على الناشر العربي، فإذا ما تجاوزها، وطبع الكتاب ونشره في بلده، فإن عليه أن يحصل له على موافقات بعدد دول الجامعة العربية إلا قليلاً ممن أراح نفسه من عبء الرقابة المسبقة، لكلٍّ منها مزاجه ومعاييره وآلياته الخاصة به لممارسة هوايته في مراقبة المطبوعات الواردة إليه، وهي مدانة كلها مسبقاً حتى تثبت براءتها، وإثبات البراءة- فضلاً عن الزمن الطويل الذي يستغرقه- سيكون متعذراً جداً في بلدان متباينة الأنظمة والاتجاهات، ويندر جداً أن ينجو كتاب من منع هنا أو حجر هناك، فإذا ما فتح له باب في بلد، أوصدت دونه أبواب في بلدان أخرى بذرائع شتى. والضحية دائماً هو القارئ المحروم من حقه في الاطلاع، ومن ورائه الثقافة العربية المحرومة من حقها في الإبداع، إذ الإبداع لا يزكو إلا في مناخ التعدد، وحرية التعبير، واحتكاك الأفكار، وتصادم الآراء،واحتدام النقد.

في عصر المعلومات وثورة الاتصالات التي نعيش، أفلتت الكلمة من سلاسل الرقيب، وانطلقت حرةً تصل إلى الإنسان في كل مكان، وتنهمر عليه من السماء عبر الفضائيات، وتنبع بين يديه في الأرض عبر الشابكات.. لم يعد الإنسان أسير الكلمة الواحدة والخطاب الواحد والرأي الواحد، فقد تعددت أمامه الخيارات إلى درجة الطوفان، وعليه أن يتقن السباحة في خضم المعلومات ليطفو على السطح ظافراً بخيراتها ناجياً من أحاييلها وآثامها.

لم يعد للرقابة معنى في عصر المعلومات، ولن تجديها وصايتها نفعاً، إذا لم تكن مسؤولية الكلمة التزاماً مشتركاً يضطلع بها الكاتب والناشر والقارئ جميعاً.

إن المسؤول عن الكلمة أولاً وأخيراً في نظري هو القارئ؛ بوعيه الناقد، وحسه الثقافي المرهف، يستطيع أن يوجه حركة الفكر والنشر؛ بإقباله على الإبداع المميز والإنتاج الثقافي النافع، يمكنه أن يصحح المسار، ويتجاوز الغثاء، وينحي الأفكار القاتلة، ويدفن الأفكار الميتة.

لا أخاف على القارئ النهم من الضلال، فنهمه للقراءة وتوقه للاطلاع سوف يهديانه إلى سواء السبيل، فالقراءة الواعية تصحح أخطاءها.

إنما الخوف الكبير على القارئ أن يحيد عن درب القراءة، وتتراخى يده عن الكتاب، فتلك هي الطامة الكبرى..

وأخلص إلى القول:

إن الالتزام الطوعي الذي توفره رقابة المجتمع أجدى على الثقافة وأكثر مصداقية من الإلزام السلطوي الذي فقد جدواه ومعناه؛ في عصر التفجر المعرفي الذي أحدثته ثورتا المعلومات والاتصالات، فحطمتا به كل السدود والقيود والوصايات.

10-النضال من أجل حرية النشر

إن على الناشرين- في الوطن العربي- أن يناضلوا- فرادى وجماعات عبر اتحاداتهم- من أجل حرية التعبير، وحرية النشر، وحرية مرور الأفكار.. من أجل أن يتحرك الكتاب بلا حدود ولا قيود.. من أجل استعادة حقهم المستلَب في الإسهام بدعم المناهج التربوية بالكتب الموازية والمساعدة وكتب المطالعة الحرة، والتنافس لإغنائها وإثرائها، وتحقيق مبدأ التنوع والتعدد الذي لا يزكو من دونه إبداع.

وعليهم أن يمتلكوا الشجاعة لتحمل مسؤولية الكلمة التي ينشرونها، تجاه المجتمع والدولة؛ مسؤولية يخترقون بها كل أطر الآبائية والماضوية والتقليد والاجترار والسكون، ليعيدوا للثقافة العربية الإسلامية حراكها وفعاليتها وقدرتها على العطاء والنماء..

في عصر المعلومات وثورة الاتصالات التي نعيش، أفلتت الكلمة من سلاسل الرقيب، وانطلقت حرةً تصل إلى الإنسان في كل مكان. وتنهمر عليه من السماء عبر الفضائيات، وتنبع بين يديه في الأرض عبر الشبكات.. لم يعد الإنسان أسير الكلمة الواحدة والخطاب الواحد والرأي الواحد، فقد تعددت أمامه الخيارات إلى درجة الطوفان، وعليه أن يتقن السباحة في خضم المعلومات ليطفو على السطح ظافراً بخيراتها ناجياً من أحاييلها وآثامها.

لم يعد للرقابة معنى في عصر المعلومات، ولن تجديها وصايتها نفعاً، إذا لم تكن مسؤولية الكلمة مشتركة يضطلع بها الكاتب والناشر والقارئ جميعاً.

أربأ بمؤتمركم أن تتبدد كلماته في الهواء بلا صدى على الأرض.

لا بد من تشكيل لجان للمتابعة، تقدم كشف أعمالها لمؤتمركم القادم، فيكون مؤتمركم هذا قدوةً لبقية المؤتمرات والفعاليات، تستعيد به الكلمة سحرها، وقوتها، وفعاليتها..

 

محمد عدنان سالم

البحث في الإصدارات

للبحث في إصدارات الناشرين اكتب اسم الكتاب او الكاتب

أحدث الإصدارات

blog
الحكايات
دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر
blog
ظلال ماري
دار ليندا
blog
عالم غاليوس
مؤلفون ومترجمون
blog
عالم غاليوس
محمد شعبو

المعارض

أحدث الأخبار والأنشطة

التعاميم والقرارات